استعرض مركز أبحاث متحف زايد الوطني آخر إنجازاته وهو عبارة عن نجاح تجربة إبحار نموذج قارب من العصر البرونزي يصل طوله إلى 18 متراً، في رحلة قبالة سواحل أبوظبي. وتم تنفيذ هذا المشروع بالتعاون مع جامعة نيويورك أبوظبي وجامعة زايد بهدف تسليط الضوء على التراث البحري الغني لدولة الإمارات العربية المتحدة، وتجارة العصر البرونزي.
بني القارب الذي كان يطلق عليه في العصور القديمة "قارب ماجان" من مواد خام بناء على الوصف الذي تضمنه لوح صلصال أثري وباستخدام تقنيات قديمة يعود تاريخها إلى حوالي 2100 عام قبل الميلاد. وقد استطاع القارب اجتياز مجموعة من الاختبارات الصارمة، مما مكّنه من قطع مسافة 50 ميلاً بحرياً (92.6 كيلومتراً) في مياه الخليج العربي. تولى قيادة القارب مجموعة من البحارة الإماراتيون مع فريق من صناع القوارب في المنطقة بمرافقة دوريات من خفر السواحل الإماراتي، وعلى مدار خمسة أيام مر القارب بالعديد من التجارب البحرية، ووصلت سرعته إلى 5.6 عقدة باستخدام شراع مصنوع من شعر الماعز.
وعمل صانعو السفن المتخصصون في النسخ التاريخية بشكل وثيق مع مجموعة الباحثين لإنجاز بناء القارب باستخدام مواد خام وأدوات يدوية تقليدية، حيث تطلب صنع هيكله الخارجي 15 طنًا من القصب محلي المصدر، بعد نقعه وتجريده من أوراقه وسحقه وربطه في حزم طويلة باستخدام حبال مصنوعة من ألياف النخيل. ليتم ربط حزم القصب بهيكل داخلي من الإطارات الخشبية وتغليفها بمادة "القار" التي كان صناع السفن القدماء في المنطقة يستخدمونها لتمكين القوارب من مقاومة المياه، وقد اكتشف علماء الآثار مؤخراً في جزيرة أم النار أنواعاً مماثلة من مادة "القار" تتطابق مع مصادر من بلاد الرافدين.
ويعتبر مشروع "قارب ماجان" مبادرة أثرية تجريبية أطلقها متحف زايد الوطني عام 2021 بالشراكة مع جامعة نيويورك أبوظبي وجامعة زايد، بهدف استكشاف وفهم أنماط معيشة سكان المنطقة منذ أكثر من 4000 عام، إلى جانب المحافظة على التراث البحري للإمارات العربية المتحدة والصناعات التقليدية وتعزيز شعور الفخر بالهوية الوطنية.
ولإنجاز المشروع، اشترك متخصصون في علم الآثار والأنثروبولوجيا والعلوم الإنسانية الرقمية والهندسة والعلوم، لتصميم وبناء القارب، حيث أجريت مئات التجارب خلال عملية بناء القارب بهدف اختبار قوة حزم القصب ومقاومة خليط "القار" للمياه. كما شاركت أيضاً مجموعة من طلبة الجامعات المتعاونة في المشروع ما أتاح لهم فرصة تطوير مهاراتهم في البحث والتعمق في التراث البحري الغني للمنطقة من خلال تطبيق المعرفة المكتسبة في الدراسة النظرية على الإبداع العملي الواقعي.
"يشكل تقدير التاريخ البحري للخليج العربي مفتاحاً مهماً يمكننا من فهم دور أبوظبي وتقدير أهميتها في العالم القديم. لا سيما وأن المشروع الذي يقوده متحف زايد الوطني يجمع متخصصين في العديد من التخصصات العلمية للعمل معاً من أجل رفع مستوى فهمنا للابتكارات الإماراتية التي نعتز بها. يمثل إطلاق قارب ماجان المثير للإعجاب، آلاف السنين من الريادة والاستكشاف الإماراتي، بدءاً من بناة وصناع السفن القدامى وحتى علماء الآثار التجريبيين الحاليين".
وكما أضاف الأستاذ جورجي: "بدأت مساري المهني في مجال توثيق التراث البحري بمشروع إعادة بناء السفينة الأوروبية باتافيا التي يعود عمرها إلى 400 عاماً. والآن، بعد أربعين عاماً من الأبحاث في مختلف المواقع حول العالم، يمكننا إعادة أولى تجارب العولمة التي حدثت في العصر البرونزي قبل أربعة آلاف سنة".
ويمثل هذا القارب أكبر عملية إعادة بناء من نوعها على الإطلاق، بما يُسهم في تعميق فهمنا لأنماط العيش في مجتمعات العصر البرونزي، كما يكشف عن أسرار الحرف اليدوية التقليدية التي ساعدت في إنشاء روابط بين دولة الإمارات العربية المتحدة والعالم. وتبين النصوص القديمة أن هذه القوارب كانت تسمى "قوارب ماجان"، وهو الاسم القديم لدولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان، ويشير استخدام هذا المصطلح إلى دور دولة الإمارات في التجارة البحرية منذ أكثر من 4000 عام، حيث أتاحت القوارب التي تمتاز بضخامة حجمها وقوتها للأشخاص الذين يعيشون في دولة الإمارات إمكانية التجارة مع المجتمعات البعيدة مثل بلاد الرافدين (العراق حاليًا) وجنوب آسيا.
تولى تصميم القارب فريق يضم أكثر من 20 متخصصًا من بينهم مهندسين وعلماء آثار يسعون إلى معرفة واستكشاف الماضي من خلال تجربة التكنولوجيا القديمة باستخدام تقنيات تقليدية. وقد اعتمد شكل القارب على الرسوم التوضيحية القديمة للقوارب، وتم إعادة بناءه على أساس سعة "120 غور" أي ما يعادل 36 طنًا، فيما تولى المهندس البحري تحديد طول وعرض القارب وعمقه عبر استخدام التحليل الهيدروستاتيكي وذلك بهدف توفير الأبعاد التي تمكنه من الطفو بمجرد إضافة الوزن المقدر للبضائع والقارب وطواقمه. تطلب رفع الشراع وتجهيزه فريق يضم أكثر من 20 فرداً، وذلك لأن البكرات لم تكن موجودة في العصر البرونزي.
سيتمكن الزوار من مشاهدة "قارب ماجان" عند افتتاح متحف زايد الوطني في جزيرة السعديات، حيث يحتفي متحف زايد الوطني بالتاريخ الغني لدولة الإمارات العربية المتحدة العريق وثقافتها بدءاً من الماضي القديم وحتى يومنا هذا. وباعتباره مؤسسة بحثية، يمثل المتحف قوة دافعة لتطوير وتعزيز وتنسيق البحوث الأثرية والتراثية في دولة الإمارات العربية المتحدة.