إن تطوّر فيروس كوفيد-19 قد تضمّن طفرات غيّرت طبيعة الأشواك البروتينية للفيروس- وهو الجزء البارز الذي يسمح للفيروس بالتعلّق بالخلايا واختراقها- بطريقة تعزّز من قدرته على التعلّق بخلايا الإنسان ومقاومة الأجسام المضادة. وقد اعتمد البحث الذي أجراه علماء في مركز علوم الجينوم والأنظمة الحيوية في جامعة نيويورك وجامعة نيويورك وأبوظبي على أسلوب النمذجة الحاسوبية لتحديد أهمية الطفرات في الأشواك البروتينية للفيروس، الأمر الذي أسفر عن تحديد أنواع جديدة قادرة ذات قدرات معزّزة على التعلّق بالخلايا البشرية أو مقاومة الأجسام المضادة بينما يشكّل في ذات الوقت أداة يمكن تسخيرها في مجال الصحة العامة.
حسب البحث الذي نشرته دورية "البيولوجيا الجزيئية" (The Journal of Molecular Biology)، فإن سرعة انتشار الفيروس في بعض أنحاء العالم تعود إلى هذه الطفرات والتغيّر الناجم عنها في بنية الأشواك البروتينية.
شهدت الأشهر الأخيرة ظهور أنواع جديدة من فيروس كوفيد-19 تتميّز بسرعة انتقال العدوى، مما تسبب بارتفاع حاد في عدد الإصابات في بلدان كالهند والبرازيل، مما استدعى تطوير إجراءات جديدة في مجال الصحة العامة لتحديد صفات هذه الأنواع الجديدة واستباق نشوء السلالات الجديدة منها. ومن الجدير بالذكر أن ذلك يشكّل عملاً عملاقاً، فتبيّنت بعد تحديد تسلسل جينوم فيروس سارس-كوف 2 إمكانية حدوث حوالي خمسة آلاف طفرة وراثية في بروتين الأشواك البروتينية، عدا عن بقية أجزاء الفيروس.
ووفقاً للباحث الرئيسي في مركز علوم الجينوم والأنظمة الحيوية هين هارك غان: "يشكّل الفحص لهذا العدد الكبير من الأنواع تحدياً شاقاً للأساليب التجريبية التقليدية، ومن مزايا النمذجة الحاسوبية أنها توفّر لنا القدرة على تحليل مئة سلالة من ذات الفيروس خلال بضعة أيام".
اعتمد الدكتور غان وفريقه على قدرات الحاسوب لنمذجة الطريقة التي تحدد بها الأشواك البروتينية للفيروس ذلك البروتين مستقبل ACE2 الذي يوجد على غلاف العديد من الخلايا، فيستغلّ خواص هذا البروتين لاختراق الغلاف واحتلال الخلايا. وقد حدّدت دراسات سابقة حول الفيروسات التاجية أنها تعتمد على استغلال الأشواك البروتينية لبروتين مستقبل ACE2 بشكل أساسي.
ركّز الباحثون جهودهم على رصد الطفرات التي تؤثر على نقطة التقاء الأشواك البروتينية للفيروس مع البروتين مستقبل ACE2 للخلية البشرية، فحددوا 1003 زوجاً من الطفرات المتوافقة فيهما، بما فيها تلك المسؤولة عن الأنواع الجديدة وسريعة الانتشار من الفيروس التي نشأت في البرازيل وجنوب أفريقيا والمملكة المتحدة والهند.
وقد كشف التحليل المنهجي عن خاصية تتميز بها أنواع الفيروس الأكثر نجاحاً في التعلّق، وهي تركّز الطفرات ضمن ضمن منطقتين ذات درجة عالية من المرونة. ويشير ذلك إلى أن الطفرات التي تعزز قدرة الفيروس على التعلّق قد أثّرت على إعادة تشكيل الأشواك البروتينية بما يحسّن من قدرتها على رصد البروتين مستقبل ACE2.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد درس الباحثون تأثير الطفرات المضاعفة في منطقة التعلّق موضوع الاهتمام، وهي صفة تتميّز بها بعض السلالات الجديدة التي ظهرت حديثاً، فوجدوا من خلال التحليل أن أنواع الفيروس سريعة الانتشار ذات الأشواك البروتينية S477N و N501Y و S477N و + E484K و E484K و + N501Y كلها تتميّز بتفوّقها من حيث القدرة على التعلّق بالبروتين مستقبل ACE2 مقارنة بسلالة الفيروس الأصلية التي ظهرت أولاً في مدينة ووهان.
كما أشار الباحثون إلى أن طفرتي E484K وE484Q التي رصدت أخيراً في بعض السلالات الجديدة السريعة الانتشار لا تمنح الفيروس قدرة إضافية على التعلّق فحسب، بل إنها تضفي عليه قدراً من المناعة ضد الأجسام المضادة التي ينتجها الجسم لمواجهة العدوى الفيروسية من خلال استهدافها الأشواك البروتينية لمنع الفيروس من اقتحام الخلايا السليمة. وقد دفع هذا الاكتشاف الباحثين إلى دراسة عامل آخر له دور في نقل العدوى الفيروسية، وهو تأثير كل طفرة على تطوّر مقاومة الفيروس للأجسام المضادة.
وبالنسبة لسلالة الفيروس التي انتشرت في الهند، فإنها تتميز بطفرتي L452R و E484Q، ولا يعتقد الباحثون أن هذا النوع أكثر قدرة على التعلّق بالبروتين مستقبل ACE2 من النوع الذي نشأ في ووهان، فللطفرتين تأثيران مختلفان يعاكس أحدهما الآخر، فالأول يقلل من قدرة التعلّق بينما الثاني يزيدها. أما من الناحية الأخرى، فقد أظهرت الطفرتان فعالية عالية في مساعدة الفيروس على مقاومة الأجسام المضادة، وهو تطوّر غير موجود في غيرها من السلالات الحديثة للفيروس.
وفي هذا الصدد، يقول الدكتور غان: "كلما ساهمت الطفرات في ازدياد مقاومة المواقع التي تستهدفها الأجسام المضادة، تقلّ فعالية الأجسام المضادة وكذلك اللقاحات. وكما نعتقد، فقد يكون هذا سبب سرعة انتشار السلالة الجديدة في الهند".
توفّر نتائج البحث تفسيراً لسرعة انتشار فيروس كوفيد، نظراً لما كشفته من طفرات تعزز قدرته على التعلّق ومقاومة الأجسام المضادة. ولكنها في الوقت ذاته أبرزت قابليات أداة جديدة يمكن لقطاع الصحة العامة تسخيرها في مواجهة جائحة كوفيد.
وكما صرّحت كريستين غونسالوس، أستاذ علم الأحياء في جامعة نيويورك ومديرة المعلومات الحيوية في جامعة نيويورك أبوظبي: "يمكن تطبيق أسلوب النمذجة الحاسوبية الذي طورناه لرصد السلالات المعدية الجديدة في الوقت الفعلي، فيمكننا من التعامل مع ظهور الأوبئة وكبح انتشارها بسرعة بالإضافة إلى دوره في تطوير علاجات جديدة في المستقبل".
بالإضافة إلى غان وغونسالوس، ضم فريق البحث آلان توادل ضمن مجموعة غونسالوس في موقعي الجامعة في مدينة نيويورك وأبوظبي، وبينواه مارشان من مجموعة الحوسبة فائقة السرعة بجامعة نيويورك أبوظبي.